للعام الحادي عشر على التوالي تُبرهن
سوريا والثورة السورية أنها عصية على الكسر، وأن لُقمة الشام أكبر من أفواه من أراد ابتلاعها. فعلى الرغم من وجود جيوش أجنبية خمسة على أراضيها، إلاّ أن المُجمع عليه أنها عجزت عن التوصل لخريطة طريق واحدة، في ظل وجود "الجوزة القاسية" غير القابلة للكسر، والممثلة بالشعب السوري المصمم على نيل حريته، واستقلاله، على الرغم من كل الأكلاف التي دفعها ويدفعها ومستعدٌ أن يدفعها. ولا أدلّ على ذلك من الفشل الذي يلد فشلاً، وأعني استراتيجية الاحتلال الروسي في الجنوب السوري، والتي أملت
روسيا أن تكون أنموذجاً يحتذى؛ بتشكيلها فيالق عسكرية موالية لها، فانقلب السحر على الساحر، وظهرت عمليات مقاومة في الجنوب مما قلب الطاولة على رأس الاحتلال الروسي، ووضعه في موقف محرج داخلياً وخارجياً، ووصل الأمر إلى اتهامات داخل موسكو للخارجية الروسية بأنها لم تستطع أن تترجم "انتصارات موسكو العسكرية" إلى انتصارات سياسية، وتبع ذلك تهميش جزئي لرئيس الديبلوماسية الروسية لافروف لصالح نوابه ووزارة الدفاع نفسها كما رأينا.
سعى لافروف إلى قفزة بعيدة للأمام من أجل التعويض عن فشله هذا من خلال تعويم
الأسد عبر التعامل الأردني معه، ودعوته للجامعة العربية، لكن قوبل ذلك بصدّ وردّ قويين من السعودية وقطر، ولم ينفعه كل التساهل الأمريكي مع من أراد التطبيع معه، فاستغل النظام ذلك برفع منسوب صادرات حشيشه وكبتاغونه، وهي المنتوجات والصادرات الوحيدة التي برع فيها، وسعى إلى استغلال الفرقة الرابعة بقيادة شقيقه ماهر الأسد، وأجهزة الدولة البيروقراطية وموانئ شرعية من أجل تصدير كميات ضخمة بمليارات الدولارات؛ لعلها تعوّضه عن تدميره للاقتصاد السوري بالحرب التي شنها عليه، والتي دعا إليها المحتلين الروسي والإيراني، والمليشيات الطائفية التي استقدمها لقتل الشعب السوري.
سعى لافروف إلى قفزة بعيدة للأمام من أجل التعويض عن فشله هذا من خلال تعويم الأسد عبر التعامل الأردني معه، ودعوته للجامعة العربية، لكن قوبل ذلك بصدّ وردّ قويين من السعودية وقطر، ولم ينفعه كل التساهل الأمريكي مع من أراد التطبيع معه
لكن انقلب السحر على الساحر، حيث تحوّل ذلك إلى مادة رئيسية للإعلام الغربي، فطالب السياسيون والمشرعون الأمريكيون على إثرها بالتحقيق في دولة المخدرات السورية، ووصل الأمر إلى طلب الكونغرس تقريرا عن ثروة الأسد نفسه في غضون ثلاثة أشهر فقط.
هذا الواقع ربما لخصه واختصره المبعوث الأمريكي السابق لسوريا جيمس جيفري، حين قال لصحيفة الشرق الأوسط بأن روسيا في مستنقع حقيقي في سوريا. فالمستنقع ليس استنزافاً عسكرياً فقط، وإن كان هذا يحصل أحياناً في عمليات متفرقة، وإنما استنزاف اقتصادي وسياسي وعلاقات دولية، وتورط بوضع لا نهاية له، مما يستنزف المحتل وموارده وشعبيته. وعلى الرغم من مرور ست سنوات على وجود الاحتلال الروسي، فإنه لا بصيص أمل روسي بالقضاء على
الثورة السورية التي وضع لها بوتين يوم الغزو فترة أربعة أشهر فقط لتمكين بشار الأسد.
تسعى روسيا للتعويض عن هذا كله بتحويل قاعدة حميميم العسكرية في اللاذقية إلى نقطة ارتكاز حقيقية في تسويق مشروعها الاستعماري العسكري. وقد كشف فيلم أنتجه التلفزيون العربي عن القاعدة بالأرقام والوثائق؛ حجم نفوذ القاعدة وأهدافها التي تتعدّى سوريا، إلى بيع أسلحة روسية مجرّبة على الشعب السوري، وذلك لدول أفريقيا وغيرها، فضلاً عن تدخلات روسية في أفريقيا بنقل الأسلحة ونقل المرتزقة على حساب النفوذ الغربي في تلك المنطقة، وهو الأمر الذي يضع نقاط استفهام كبيرة أمام الغرب، وأمريكا تحديداً في صمتها، بل وتواطئها مع الغزو الروسي منذ اليوم الأول. فهل كان للأخير أن يتجرأ على هذا الدخول لولا الموافقة الغربية والأمريكية تحديداً؟ وقد كشف بعضاً من ذلك مستشار وزارة الدفاع الأمريكي سابقاً في إحدى شهاداته أمام الكونغرس، وكيف كان الأمريكيون ينسقون المواقف مع الروس في سوريا.
اليوم نرى ذلك بالتحقيقات الموسعة التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز من خلال كشفها الخسائر البشرية الضخمة التي ألحقتها الغارات الأمريكية على مناطق داعش في الجزيرة السورية
أتى تصريح الرئيس الفرنسي السابق فرانسو هولاند ليؤكد الدعم الغربي لبقاء الأسد في السلطة، حين أبلغ راديو فرنسا بالعربي من أنه عرض على الرئيس الأمريكي يومها باراك أوباما القضاء على الأسد، ولكنه رفض. وأضاف هولاند إن أمريكا مسؤولة عن ظهور داعش ومجازر الأسد، ولو تمكنا من محاسبة الأسد ونظامه على ارتكابه لهجمات السلاح الكيماوي، لما كان هناك تنظيم داعش، ولو استمع أوباما إلى نصيحتي لكان نظام بشار الأسد قد انتهى.
اليوم نرى ذلك بالتحقيقات الموسعة التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز من خلال كشفها الخسائر البشرية الضخمة التي ألحقتها الغارات الأمريكية على مناطق داعش في الجزيرة السورية، وكيف أن آلافاً من المدنيين قد قضوا بسبب تلك الغارات التي كان يعرف الجيش الأمريكي أن بعضها تستهدف مدنيين ومع هذا نفذها، دون أن يجري أي تحقيق فيها، فضلاً عن عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من المدنيين الذين فروا من المنطقة؛ في تطهير عرقي وطائفي غير مسبوق، ولا يستطيعون العودة اليوم إلى بيوتهم، إما لأنها مدمرة وفاقدة لأبسط الخدمات التحتية، أو بسبب سيطرة قوات قسد الإرهابية حليف واشنطن على المنطقة، بينما نرى أنموذجاً آخر في القضاء على داعش وبمناطق الثورة في الشمال المحرر على أيدي الثوار، وهي المناطق التي كان يعيش فيها زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي أيامه الأخيرة قبل أن تقتله غارة أمريكية، ومع هذا فقد تم القضاء على التنظيم بتفكيكه وملاحقته، بأسلوب حرب ناعمة ذكية دون أن يُدمر فيها بيت واحد أو يقتل مدني، وهو ما يضع أسئلة كبيرة على استراتيجية التحالف الدولي بقيادة أمريكا في حرب تنظيم الدولة، الذي كان أكبر في الواقع خدمة لبقاء بشار الكيماوي وبدعم روسي، بينما حرفت أمريكا ثورة السوريين واختصرتها بحرب داعش!