هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دمشق ملء الذاكرة والقلب، تتغشاني وتضغط عليَّ، شميمها في أضلعي، لا يمكن تجاوز حضورها وتأثيرها، ولا تجنُّب معاناتها وأوجاعها وما يدميها من خناجر، وما يسري في عروقها من سموم، وما يكتنفها من أزمات يرهق النفس ويكسر الظَّهر.. لا يمكن اختصار دمشق بأفعال وأقوال وأماكن ورجال، فتاريخها ذروة من ذرى عز الأمة ومجدها، ومقامها القلب والوجدان، وجغرافيتها لا تحد بسورها ذي الأبواب السبعة، "بل العشرة"، ولا تلخيص معالمها بالجامع الأموي الكبير، والقلعة، والأسواق والخانات والحمامات، ولا بعظماء وصحابة أجلاء سكنتهم وسكنوها وضمهم ترابها أمية وعبد الملك وعمر ابن عبد العزيز وابن عساكر وابن عربي وصلاح الدين والعز بن عبد السلام وآلاف القامات في كل مجال وميدان من مجالات المعرفة والعلم والإيمان، وميادين العمل والإنتاج والفتح والدفاع عن الذات والأمة والهوية والعقيدة.. فدمشق أكبر من أن يُحاط بما فيها وبتاريخها وعظمتها، وتوغلها في الزمن يجعلها من شواهد الزمن والشهود عليه.
تأسُرني دمشق وتدميني، وبين العدوان والعداوة، التآمر والتآكل، التقاتل والتدابر، الدم المَطلول غَدراً والمهَراق سِراً وأَسْراً.. شواغل دمشق كثيرة، وهمومها كبيرة، وجراحها أعمق من أن تُرْتَق.. أعيشُ دمشق عشقاً وتوقاً وحسرات ولا أسأل عمَّا إذا كانت تشعر بي، ومن قال إن المُتيّم الذي يخيم على باب المَعشوقة ينتظر رؤياها ويطلب رضاها، يمكن أن يَسأل عما يصيبه من معاناة ونزف وبؤس في أثناء انتظار طال أو يطول؟!..
فالعاشق منذور لما يعشق، والعشق الحق عُذري الروح بداية ونهاية، وصاحبه يذوي اصطباراً ويذوب خجلاً ويذبل وَجَلاً، ويتمنى لو تبتلعه الأرض إذا استُشفَّ منه وفيه غَلَثٌ في شهوة ما تشوب نورَ الروح وصفاء القلب ونقاء الحب، غلثٌ في نظرٍ أو كلامٍ أو حضور، يُغْطِشُ البصيرة ويطمس البَهاء، ويشوه القصدَ ويفسد الغاية.
بيني وبين دمشق سبعون عاماً من المُكابدة، ومدى لا يُحَدُّ من التوق إلى المعرفة والفهم والهضم والتَّمثُّل، وكلها أعوام عمل ووفاء وانتماء وظمئ للارتواء.. وأسعى سعي الهيم ولا أشعر بأنني ارتويت أو اشتفيت أو فُطِمت أو شارفت على فِطام، فأنا رضيع حب ومعرفة لا يُفطَم، ليس ذلك لنهم أو كسل أو تراخٍ في آداء أو لانكسار عزم وإرادة، فما بذلْته من وقت وجهد لمعرفتها وخدمتها وما قمت به من عمل في رحابها، يربو بتقدير إنجاز الأعمار على عمر نسر لقمان بن عاد، عمر أمضيته بدأب نَمل عملاق الجهد والصبر، حَمَّلني ما حَمَلْتُ، وما حُمِّلت من دون سبب ما تنوء به العُصبة أولو العزم.. لم أعمل ما عملت لأذكر ولا أفوز بمغنم بل لتفوز هي، فالعشق بذل لا حدَّ له ولا ثمن، وصاحبه لا يؤجَر عليه بالمعنى المادي خاصة.. فيا لها الشام من معشوقة تشتعل في قلبي وتشعلني فأغدو بَوتقَة من طينٍ وحديدٍ وتوهج حنينٍ ووهجِ ضياءٍ، وحُداءٍ للأرواح تحمله الريح.. وكل ذلك يسكن الذاكرة ويملأ القلب ويغلي ويفور في كيان يغالب الظلمة ويتوق للعدل والأمن والنور.
أعيشُ دمشق عشقاً وتوقاً وحسرات ولا أسأل عمَّا إذا كانت تشعر بي، ومن قال إن المُتيّم الذي يخيم على باب المَعشوقة ينتظر رؤياها ويطلب رضاها، يمكن أن يَسأل عما يصيبه من معاناة ونزف وبؤس في أثناء انتظار طال أو يطول؟!..
تمتد الشام أمامي من سُجون العدَم إلى قبور القيم، وتغمرني بفيض شذاها فأَنْشُد قِمم القيم، وأُنْشِد أناشيد الزمن القريب إلى القلب والروح، في فضاء زمن غريب عجيب يحتله غرباء عن العروبة والوطن، عن الأمة والدين، عن السلم والأمن وكل ما ينفع الناس ويفضي إلى يقين.. أنشد: "الله أكبر" مع ابن الوليد وابن الجراح على بابيها، باب الجابية والباب الشّرقي، وأنشد في مرْجَتها "موطني.. موطني"، ومن ذروة جبلها أردِّدُ "من قاسيون أطلُّ يا وطني"، وفي معارضها ومباهجها أُغني "شَآم أَهْلوكِ..".. وفي تشارينها أهتف "يا شام أنت الفَخَارُ.. ".. أحدو وأنشد وأردِّد، لا أكلُّ ولا أمّلُّ والبهجة تضمحل والدمع يهل، وفي الجراح ملح يعركها حدّ النشيج والنزيف.. ألهجُ بذكرها ولا أقنط حين يبرُدُ قلبها ويذبُل وردُها، وينْشَفُ "برداها"، ويبكي طفلُها، وتهيم فيها أمهات على وجوههن بحثاً عن أمن من جوع وخوف، وعن مُعْتَصَم يحفظ الإنسان مكانة وقيمة، غاية ووسيلة.. وحين تحمر وجوه حرائرها خجلاً من فعل من يسوِّدن وجهها.. أُنشد ولا أقنط، فالشام شعب وتاريخ، راية أُمَّة، وحصنُ قلب، ومعنى حياة لمن تعنيه هوية وانتماء وكرامة وحرية في الحياة.. ألتصق بها وأدعو أن تزول عنها الغمة، لأنها مُعتَصَمُ القَلْب، ومستنبَت الحلُم، ودارة الأمل، وبيت إرادة الأمة ومجد تاريخها، ولأنها رمز الوطن وعنوانه و" حبُّ الوطن من الإيمان" أينما كنا ومهما كان.
مَن يسألُ دمشق تجبه، ومن يبحث فيها يجد ما يسعده ويغنيه من المادي إلى الرُّوحىِّ، ومن المدهش المحير إلى المُدمي المُنفر، من الوطني إلى نقيضه، ومن القومي العربي إلى ضده، ومن المؤمن إلى الملحد، ومن المنتمي إلى المُنْبَتِّ، ومن الناثر دمه دفاعاً عنها إلى العابث بدمها ودم الناس فيها، ومن المتاجر بها وبهم إلى الفادي لها ولهم، ومن المستعين بأعدائها على أبنائها إلى الواقف بوجه العدوان والأعداء يأبى أن يموت إلا واقفاً كما تموت الأشجار التي تخضر وتزهر وتثمر رغم نغل السوس في جذعها والأغصان.. وإنه لواجد فيها ما يلهِبُ ويُهبِل، وما يتيه بها عشقاً وفخراً، وما يحبِط عزمه عُقماً ويثقله جراحاً وحَسرة بكل الأبعاد والمعاني المادية والمعنوية.. ففي الشام ما لا أستطيع حصره ولا أريد، لأن طلب المستحيل توهم مُمْرِض وتخييلٌ وبيل.
مَن يسألُ دمشق تجبه، ومن يبحث فيها يجد ما يسعده ويغنيه من المادي إلى الرُّوحىِّ، ومن المدهش المحير إلى المُدمي المُنفر، من الوطني إلى نقيضه، ومن القومي العربي إلى ضده، ومن المؤمن إلى الملحد، ومن المنتمي إلى المُنْبَتِّ، ومن الناثر دمه دفاعاً عنها إلى العابث بدمها ودم الناس فيها،
أتيه بها، وحين أنظر إلى جفون الأرض المُقرَّحة في مواقع يدنسها المُحتل وأخرى يتقاتل بها الأهل، أود لو أدفن نفسي في التراب.. ولأنني أرفض الاندثار أعود إليها حاملاً سيفاً من غضب وحلم ووصًب، أجول في أحيائها وحواريها وأصول، فتندهش مني عيونٌ وتسخَر مني أخرى فأنظر إليَّ في مرآة ذاتي فإذا سيفي من خشب يشقَعُ منه دمي، وإذا خنجري في كبدي، وإذا دمي قَطِرانِيّ اللون يرهقني ويحيلني حطَباً يشعله الرفض ناراً ويحيله الضعف رماداً؟!..
أذهب إلى كل الجهات ثم أعود إليها وأُعاودُ العَود كطير غشَّى بصرَه ثلجُ العاصفة، يبحث عن عشه وفراخه وبعض الدفء في مأوى آمن.. كيف لا أعود إليها وهي المآل ولو في الحلُم.. أفلا يقصد الطائر عُشّه رغم العاصفة؟!
أعود إليها لأنها الأمل في الخَلاص، والعاصِمَة المُعتَصَم، ولأنها لأبنائها، ولأنه ليس لي سواها ولا أريد أن يكون لي سواها.. وعند أبوابها ومداخلها وفي شوارعها وأزِقَّتها وحواريها أشعر بأنني أحمل راية الشهداء وأتجول، أصيح وأصيح ليصحوَ النُّوَّم، ويستيقظ على الفجيعة من هجرَه ضميرُه أو غشيت بصرَه غشاوة..
أفعل لأنني أرى فيها الأمل ولا أرى الخلاص الحق إلَّا فيها وبمعجزة تأتيها، ففي كل مكان فيها ذروة من ذرى الفضل، وفضائها تمتد قروناً وقروناً وقروناً بزَهو الطهر والنقاء.. يلاقيني في شوارعها وأزقتها تذكير وذكرُ من عاش حياته اجتهاداً وعطاءً وجهاداً واستبسالاً وما زالت تجدد متون تضحياته الذاكرة الوطنية، ومَن عاشها استنفاراً يحكي ويطيل الشرح ويفصِحُ عمَّا كان، ومَن صبر وصابر ورابط وقاوم لتبقى دار عز وبيت أمة، ودار أمن وعدل وسلام..
ويغيِّب عني ذكرَ مَن ذكرتُ ويغيبني عن ذاتي مَن أراه يمشي فيها منتفِشاً يزدري ومَن يمشي فيها مرتعِشاً، ومَن يغرِّد في مغانيها ونواديها ليل نهار ولا يشعر بمَن يتضوَّر في حواريها جوعاً ويبكي بصمت ويطلب سترً السَّتار، ومن يعربد على مدار الساعة في مغانيها ويَمُنّ على الناس بأنه أحبها فاستبد بهم لأجلها، فلبسوا لباس البؤس وصار قدرهم المقدور وقولهم المأثور: "ومِن الحبِّ ما قَتل"؟! حينها أقارب الصحو ولا أتردد في الدعوة إليه لتبقى الأمة وليس الشام وحدها، ملء الذاكرة والوجدان.