تزايدت في السنوات الماضية هجرات الأسر العربية لدول غربية، وذلك لأسباب سياسية أو اقتصادية. والقاسم المشترك بين معاناة هذه الأسر هو تحدي تربية الأبناء بعيدا عن فكرة العائلة الممتدة في الوطن الأصلي، التي يلعب فيها العم والخال والجد والجدة والجار دورا مهما في
التربية، فضلا عن الثقافة المحلية، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر.
وهي معاناة لا تفصح عن نفسها علانية، بسبب غياب ثقافة البوح في هذه المسائل؛ خاصة إذا امتد الأمر بعد ذلك إلى مشاكل تربية البنات، وفرص زواجهن في مثل هذه البيئات.
الأمر يختلف قليلا عن بقية المسلمين من أقطار غير عربية لأسباب عدة، منها أنواع من الرعاية تحوطهم بها دولهم مثل ماليزيا وتركيا، أو بسبب هجرات قديمة لجاليات مثل الهندية والباكستانية، استطاعت إيجاد بعض الحلول لمشاكلها الاجتماعية عبر أجيال متعاقبة، وإن كانت هناك مشاكل قائمة لا تزال تتقاطع مع مشاكل الجاليات العربية. لذا سينصب الحديث في هذه المقام عن الأسر العربية بالأساس.
في السياق
الغربي تحديدا في أوروبا وأمريكا الشمالية، سنجد أن هناك انتشارا لا بأس به للمراكز والمساجد الإسلامية، وما يتبعه ذلك من بعض أنشطة تتعلق بتحفيظ القرآن الكريم للأطفال، وبعض الأنشطة الأخرى.
لكننا سنجد في الوقت ذاته غيابا شبه تام لثقافة اللجوء للمستشار الأسري أو الحصول على دورات لتربية الأبناء في تلك البيئات، وهي متاحة بمقابل، وبغير مقابل مادي.
وهنا نتحدث عن طرق للوقاية التي هي أفضل من العلاج. فرغم عيوب المجتمع الغربي المعروفة، إلا أن هناك ميزات تتعلق بتأطير علمي لمسائل تتعلق بتربية الأبناء والعلاقة معهم. هذا التأطير ينعكس على قواعد موجودة في المدرسة والمجتمعات المحلية، وهي أمور في أغلبها الأعم لا تتعارض مع القيم الإسلامية، وإن تعارضت مع منطق "..إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون". أي قد تتعارض أحيانا مع الثقافة المحلية في بعض البلدان العربية، الأمر الذي ليس له صلة بتعاليم الإسلام.
وهناك بعض الجهود الاستثنائية لمتخصصين عرب في مجال جسر الهوة بين الطريقة العلمية السليمة في التربية والقيم العربية والإسلامية في المجتمعات غير المسلمية، منها جهود الدكتور مأمون مبيض الأستاذ السابق في جامعة الملكة ببيلفاست، المتخصص في طب نفس الأطفال.
وله مؤلفات عدة ودورات يقيمها في هذا الأمر للآباء والأمهات، وله أيضا حساب نشيط على موقع "تويتر" يتعلق بقضايا التربية. بالإضافة إلى جهود الدكتور رضا بشير والدكتورة كرام بشير في كندا، وهما زوجان لهما مؤلفات مشتركة عديدة في التربية، ويقيمان دورات متخصصة في العديد من الدول.
لكن كل هذه جهود يغلب عليها الطابع الشخصي، ولم تتطور بعد إلى الشكل المؤسسي المطلوب الذي يغطي مئات الآلاف من الأسر، إن لم يكن الملايين منها الذين تشكل لهم تربية الأبناء في
المهجر تحديا رئيسا.
إن المجتمعات الغربية بشكل عام مثل سوق مفتوح، تعتمد في إعطاء كثير من الحقوق لأفرادها على مطالبتهم بهذه الحقوق. فكثير من الآباء والأمهات مثلا يكتفون بإخراج أبنائهم من الحصص الدينية، أو تلك التي تتعلق بالثقافة الجنسية في المدارس الغربية. وينسون أن من حقهم أيضا مطالبة المدرسة بتنظيم ندوة موسعة يشرح فيها الآباء معلومات حول صيام المسلمين أو الحج لباقي الطلاب، في إطار تعريفهم بالإسلام وتعاليمه، وليشعر أبناؤهم وبقية الطلاب العرب والمسلمين أنهم ليسوا استثناء في هذا المجتمع.
بالإضافة للدور الكبير الذي تعطيه هذه الأنظمة التعليمية للآباء والأمهات في نوعية المناهج التي يدرسها أبناؤهم وبناتهم خاصة في المراحل الدراسة الأولى. وهناك إمكانيات في العديد من الدول تسمح لمجموعات من الأهالي أن يؤسسوا مدرسة تدرس المناهج المحلية، بالإضافة إلى مناهج إسلامية تتعلق بالقرآن واللغة العربية، وغيرها من العلوم، وتأخذ تمويلا من الحكومات المحلية في هذه البلدان.
لكنه حق غير مفعل، بسبب ما يتطلبه من تنسيق بين عدد كبير من العائلات، وحسن التنظيم والإدارة، ولأن معظم الجهود، إن وُجدت، تنصب على أنشطة تقليدية.
وتعد المبالغة في الميزات السياسية والاقتصادية لمجتمعات المهجر أمرا سلبيا من الناحية الاجتماعية يجعل المقارنة دائما لصالح هذه الأخيرة عند مقارنة أوضاعها مع أوضاع المجتمعات العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
رغم أن لهذه المجتمعات الغربية مشاكلها التي قد تتوارى عن أعين الغرباء، ولا يتم اكتشافها عادة إلا بعد فوات الأوان، ويكون الضحايا هم الأبناء للأسف على مستوى السلوك والهوية.
وهي مشكلات لا يفهمها سوى الذين يقيمون لفترات طويلة في هذه المجتمعات . ولا سبيل لتلافيها سوى الاستثمار في المجال الاجتماعي المتعلق بتربية الأبناء بشكل علمي، يعتمد على مأسسة الجهود التربوية لتوعية الآباء، وزيادة الاهتمام بالمؤسسات التعليمية للعرب في الغرب، بشكل لا يقتصر على مدارس عطلة نهاية الأسبوع التي تتعلق ببعض الدراسات الإسلامية واللغة العربية، بل يمتد للاستفادة من المنظومة التعليمية الأوسع في هذه البلاد.
وهو استثمار لا تعود نتائجه الإيجابية على المستوى الشخصي للأسر والأبناء وحسب، ولكن على مستوى مستقبل العرب والمسلمين في هذه البلاد.