يواجه قطار التطبيع بين
تركيا والعصابات
الأسدية عقبات
كثيرة على الرغم من انطلاقته المبكرة. وكان قطار التطبيع قد انطلق في موسكو من
خلال لقاء وزراء دفاع الأطراف الثلاثة، بعد تمهيد طويل سبقته لقاءات أمنية جمعت
رئيس المخابرات التركية حاقان فيدان ومدير الأمن الوطني علي مملوك في أماكن مختلفة،
على الرغم من الرفض الكبير الذي لقيته فكرة التطبيع هذه على مستوى الفصائل
العسكرية، أو على مستوى القيادات السياسية، فضلاً عن النخب الثقافية والإعلامية
السورية، بالإضافة إلى المظاهرات التي عمّت الشمال السوري المحرر رافضة لفكرة
التطبيع أصلاً بعد كل ما جرى في
سوريا وعلى مدى 12 عاماً، وقبلها عقود من حكم
عائلة آل الأسد التي فتكت بالشعب السوري.
بازار التطبيع لا يزال قائماً، فالأتراك ألقوا بورقتهم
التي تنم عن رغبة في التطبيع مع عصابات الأسد، إن كان لحاجة انتخابية داخلية، أو
لحاجة أمنهم القومي القائم على تفكيك مليشيات
قسد الكردية، ولكن على الفور أبدى
الطرفان الأمريكي والأوروبي رفضهما للفكرة، وبدأ سوق العرض الأمريكي على التركي من
حيث التعاطي مع الملف الأشد سخونة بالنسبة للتركي في سوريا وهو ملف مليشيات قسد،
وهو الملف الذي يصر فيه التركي على تفكيك المليشيات الكردية، بينما تدعو أمريكا
إلى إبعادها عن الحدود التركية، لكن لم يعد التركي يثق بالوعود الأمريكية بعد أن
نكثت واشنطن بها أكثر من مرة في السابق.
يدرك التركي تماماً أنه لا أمريكا ولا روسيا ولا النظام قادرون على تلبية شروطه واحتياجاته، وبالتالي فنحن أمام عملية كسر عظم سياسية، وإلاّ فعملية الكسر ستكون عسكرية. فهل روسيا والنظام وإيران قادرون على تسليم مناطق قسد إلى تركيا والفصائل السورية الموالية لها؟
أما الروسي اليوم الساعي إلى تقريب وجهات نظر
المليشيات الكردية مع عصابات الأسد؛ فيسعى بدوره إلى نشر قوات لعصابات الأسد في
أماكن المليشيات الكردية، وهو أمر لم يعد يثق به التركي أيضاً، فهو الحريص على أن
يتم تفكيك هذه المليشيات، واجتياح مناطقها وحرمانها من المال الذي تجنيه من وراء
حقول النفط المحمية بدعم أمريكي في الشرق السوري.
يدرك التركي تماماً أنه لا أمريكا ولا روسيا ولا النظام
قادرون على تلبية شروطه واحتياجاته، وبالتالي فنحن أمام عملية كسر عظم سياسية،
وإلاّ فعملية الكسر ستكون عسكرية. فهل روسيا والنظام وإيران قادرون على تسليم
مناطق قسد إلى تركيا والفصائل السورية الموالية لها؟ بالتأكيد فإن هذه الأطراف
بينها بعض التناقض في المصالح على الأرض، فمنطقة مثل تل رفعت تخضع لسيطرة روسية
وإيرانية، وبينما يصر التركي على السيطرة عليها، يرفض الإيراني ذلك بحجة قربها من
نبل والزهراء الشيعيتين. وحتى روسيا لديها بعض التحفظات على ذلك، لخشيتها من تمدد
تركي مستقبلاً باتجاه حلب. أما عين العرب فهي في الحقيقة تحت السيطرة الأمريكية،
وتراجع مليشيات قسد إلى ما وراء الثلاثين كيلومترا عن الحدود التركية أو أكثر.
يعني باختصار أن الحاضنة الكردية التي بنتها قسد على
مدى سنوات قد اضمحلت وانتهت، ولذا فإن العملية السياسية التركية الهادفة إلى تقليم
أظافر قسد أو القضاء عليها، بحاجة إلى إقناع الأطراف المتناقضة كلها، الإيراني
والروسي والأمريكي والأوروبي، وهو أمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً،
وحينها لن يبقى أمام التركي إلاّ العملية العسكرية.
العملية العسكرية التركية في حال حصولها تعني باختصار
وبشكل مباشر أن قطار التطبيع قد نسف تماماً، ولم يعد الحديث للسياسة والحوارات،
وإنما ستبدأ الاصطفافات بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية. ولا ننسى كيف
طار وزير خارجية إيران عبد اللهيان مؤخراً إلى دمشق، وبدت محادثاته شاقة بالنسبة
للنظام السوري بعد أن اشترط الوزير الإيراني لشحن براميل النفط الدفع المسبق
وبالدولار، بالإضافة إلى قبوله بقطار التطبيع أخيراً. ولا يشك أحد في أن الإيراني
منزعج من هذا التقارب على الرغم من التصريحات الإيجابية التي صدرت عنه تجاه
التقارب، والتي في الحقيقة لا تعبر عن جوهر وحقيقة موقفه.
المؤشرات حتى الآن لا توحي بأن قطار التطبيع سينطلق كما ترغب موسكو التي ترى نفسها أكثر المعنيين بنجاحه، للحفاظ على المكتسبات التي حققتها طوال سنوات من احتلالها سوريا، وإلاّ فإن أي انتكاسة قد تودي بكل هذه المكتسبات، تكون فيها موسكو الخاسر الأول والأخير
مرة أخرى نقول بأن الروسي مهموم ومنشغل حتى أذنيه في
أوكرانيا، وليس لديه فضل وقت أو فضل جهد وإمكانيات لينفقها في سوريا، بينما السكين
الغربية على رقبته في أوكرانيا. وهذا ما يفسر عدم الرد الروسي على العمليات
الهجومية للفصائل في الشمال السوري، فلا هو في وارد مواجهة التصعيد إن حصل في
الشمال، بسبب انشغاله في أوكرانيا، ولا هو راغب في نسف حالة التطبيع التي يرعاها
بين الجانب التركي والأسدي.
وإلى أن يحين ظهور الدخان الأبيض، ويتبين لنا الخيط
الأبيض من الأسود حيال نتائج العملية العسكرية أو السياسية بين تركيا ومليشيات قسد،
فإن المؤشرات حتى الآن لا توحي بأن قطار التطبيع سينطلق كما ترغب موسكو التي ترى
نفسها أكثر المعنيين بنجاحه، للحفاظ على المكتسبات التي حققتها طوال سنوات من
احتلالها سوريا، وإلاّ فإن أي انتكاسة قد تودي بكل هذه المكتسبات، تكون فيها موسكو
الخاسر الأول والأخير.