توقَّفنا في
مقالنا السابق عند اعتبارنا وفاة الشيخ عبد الحليم محمود (وحصار الثُلاثي: عبد الحميد كشك، وحافظ سلامة، وأحمد المحلاوي، منذ أواخر السبعينيات)؛ كانت إفساحاً لما صار يُعرَفُ لاحقاً بـ"الإسلام السياسي"، وكبحاً لدورٍ ممكن للأزهر والتصوف في الحياة العامة، بعد أن كانا قد دخلا طوراً من التعافي الاجتماعي. ثم قررنا أن وفاة الشعراوي والغزالي -إبَّان النصف الثاني من التسعينيات- كانت بدورها تمكيناً إعلاميّاً "نهائيّاً" للنجوم السلفيين الجُدد -آنذاك- الذين كانوا يتحركون قبلها في دوائر ضيقة، وعلى استحياء!
وربما توهَّم بعضهم أن تأريخنا للتحولات البرانية المفصليَّة -في الساحة الدينية المصريَّة- بوفاة شيخ أو آخر، شطط أو غلو في تقدير أدوارهم، بيد أن الباحث المنصِفَ البصير؛ يُدرك أن هؤلاء الشيوخ لم يكونوا هُم التديُّن
المصري عينه، ولا حتى كانوا هُم من وضع مثاله؛ وإنما كانوا مجرد مُمثلين نماذجيين للنمط الذي تبلور في سياقنا، وكان في طريقه إلى التآكُلِ التام بفعل تغول السلطة، وعلو طنطنة خدمها الجُدد من السلفيين، الذين لم تنكَشِف سوآتهم علناً إلا في سنة 2011م وما بعدها.
الباحث المنصِف البصير؛ يُدرك أن هؤلاء الشيوخ لم يكونوا هُم التديُّن المصري عينه، ولا حتى كانوا هُم من وضع مثاله؛ وإنما كانوا مجرد مُمثلين نماذجيين للنمط الذي تبلور في سياقنا، وكان في طريقه إلى التآكُلِ التام بفعل تغول السلطة، وعلو طنطنة خدمها الجُدد من السلفيين
لقد كان الغزالي والشعراوي وعبد الحليم ومحمود -وسائر جيلهم- أشبه بحفَظَةٍ للمذهب الديني المصري، وتنوع طريقته، رغم اختلاف مذاهبهم وتبايُن مشاربهم، وكان تقويض وجودهم الإعلامي -في المجال العام- يعني فتح الباب على مصراعيه لتقويض النمط على نطاقٍ أوسع، خصوصاً إذا ارتبَط النمط الجديد بمصالح شتى -كما أسلفنا- وصُبِغَ في عيون أشباه المثقَّفين المتدينين بشيء من أوهام "أسلمة المعرفة" الخلاَّبة، التي تَعِدُ بازدهارٍ حضاري مادي، لا يفصلهم عنه سوى إسباغ دثار الإسلام على كل ما أنتجه الغرب في شتى المجالات!
لقد كانت أهم مزيَّة امتاز بها الشيوخ الراحلون -الذين مثَّلوا نمط "التديّن المصري"- هو حُسن معرفتهم بالواقع الحضري، الذي خالطوه فترات طويلة خلال تحولات التحديث العصيبة، حتى امتزجوا به؛ فصارت حركتهم الدعويَّة تعبيراً عن عُمق الوعي بإشكالاته وتركيبيتها. أما المُتسلِّفة الجُدد، فإن أكثرهم قفزوا من قُرى الوجه البحري إلى السعوديَّة، ذهاباً وإياباً لترتيب تدفُّق التمويل، قبل أن يستَقِرَّ أكثرهم في الحواضر حين لمع نجمهم! ولا عيب في تحدُّرهم من هنا أو هناك، إلا محاولة التصدي لإشكالات سياق لا يُحسنون فهمه، ولا يكادون يعرفون عُمق أزماته، وأصولها، وهو ما أسهم بدرجة كبيرة في عُنف مُزاحمة ظاهرة "الدُعاة الجُدد" لهؤلاء السلفيين القرويين؛ إذ كان هؤلاء الدعاة الجُدد حضَراً، يعرفون سياقاتهم أفضل مما عرفها السلفيون، ويُعبرون عنها بلُغتها، بقطع النظر عن إسفاف المحتوى وسفاهة الأحلام!!
الشاهِد أن الأزمة تفاقَمت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ أن هذا السيل من الدُعاة المضطربي الرؤية؛ أفضى إلى خلخلة ما بقي من منظومة القيم، التي كان الشيوخ الراحلون يسعون للحفاظ عليها. بل إن أحداث 2011م وما بعدها، كشفت أن هذا "الفيض الدعوي" صار هو نفسه صدّاً عن سبيل الله في أحيان كثيرة، خصوصاً في أوساط القاعدة السكانية التي لم تكن ثمار "العمل بالدعوة" وخيراته تمتد إليها؛ ليطحنها الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي!
أحداث 2011م وما بعدها، كشفت أن هذا "الفيض الدعوي" صار هو نفسه صدّاً عن سبيل الله في أحيان كثيرة، خصوصاً في أوساط القاعدة السكانية التي لم تكن ثمار "العمل بالدعوة" وخيراته تمتد إليها؛ ليطحنها الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي!
لقد كانت أزمة التديُّن المصري -وما زالت إلى حدٍّ ما- أزمة تشوه تصورات جمهرة أبناء الحضر من الجامعيين المشوَّهين، الذين تسمَّى بعضهم بالإسلاميين -منذ منتصف الثمانينيات- واعتبروا أنفسهم طوق نجاة المأزومين، ومخرج المتخبطين من أزمتهم، بما سُمي بـ"الصحوة الإسلامية"، التي كانت مجرَّد إعادة موضعة للإسلام داخل النظام العالمي للشرك، وتكريساً لانبطاح هؤلاء "الإسلاميين" لنظام الدولة القومية الحديثة ومَنْ وراءه، ولسعيهم الحثيث حتى يصيروا لاعبين أكفاء في أروقة النظام الرأسمالي. وإذا كانت بعض قيادات هؤلاء تَعرِفُ قطعاً حجم خطئها، فإن الغالبية العُظمى ببغاوات لا يعرفون أنهم يفصلون فصلاً كاملاً بين الدين والحياة، إذ يربطون كافَّة جهودهم بالواقع المتردي، لتزداد أزمة التديُّن وطأة حين يرتبط تحقُّقه -ضمناً- بغايات دنيوية آنيَّة؛ يفضي إجهاضها إلى خروج الناس من دين الله أفواجاً، لأن "الدين المختَلَق" لم يَفِ بما وعدهم به من "تمكين"، على لسان الأنبياء الكذَبَة!
ومن المفارقات المأساوية، أن العوام الذين أظهروا التأفُّف والاحتقار للإسلاميين إبَّان تسلُّطهم، وتحرَّشوا بهم، بل وصفَّقوا لاعنين إياهم، ومحرضين على سفك دمائهم؛ كانوا أصدق نفوساً وأشد اطراداً مع نمط تديُّنهم من الإسلاميين. إنهم فقراء مخيبو الرجاء، ليست لهم مصالح حقيقيَّة يُدافعون عنها في الواقع، لهذا؛ أظهروا التقزُّز لمن يلوك كلام الله تعالى بلسانه، وهو يُناقضه بفعله في سبيل مغنَم تافه قريب، والمصيبة أنه مغنم متوهَّم، ولم يكن يوماً بالمغنم الحقيقي! إن هؤلاء الدهماء لا زالوا -مثلاً- يَستجيبون لتوقير آل البيت، أو لشيخ صادق اللهجة -مثل محمد متولي الشعراوي، أو عبد الحميد كشك- يتَّسقُ قوله مع فعله، ولا يكذب ولا يُرائي، أو يتكسَّب بدعوته. ولأنهم أشد اتساقاً مع نفوسهم، فقد كانوا أشد إحباطاً من المتعلمين، وكان رد فعلهم أشد قسوة وأفحش طبيعة، كما أنهم سيكونون أصدق تديُّناً حين يدينون بدين الله الحق.
ما يعنينا التأكيد عليه ها هُنا، هو الاجتماع المريب لرأي أشباه المثقفين مع الوهابيين على بغض الشيوخ المصريين الراحلين -أمثال متولي الشعراوي- والتنفير منهم؛ فكأنهم قد اجتمعوا على خدمة سيد واحد، لا غرض له إلا تقويض النموذج الذي مثَّلهُ التديُّن المصري، لإحلال غيره محله
هذه التحولات العميقة، التي استغرَقَت عقوداً؛ كانت لها تجليات شديدة الأثر على واقعنا اليوم، وسنتناوَل بعض هذه التجليات في مقالين لاحقين، إن شاء الله تعالى. بيد أن ما يعنينا التأكيد عليه ها هُنا، هو الاجتماع المريب لرأي أشباه المثقفين مع الوهابيين على بغض الشيوخ المصريين الراحلين -أمثال متولي الشعراوي- والتنفير منهم؛ فكأنهم قد اجتمعوا على خدمة سيد واحد، لا غرض له إلا تقويض النموذج الذي مثَّلهُ التديُّن المصري، لإحلال غيره محله. أما العوام؛ فإنهم يستَمِعون ويتأثرون ويتفاعلون، بل ويدعون لهم؛ بوصفهم مُمثلين نماذجيين للتديُّن المصري في لحظة من لحظاته الاستنائيَّة في تكشُّفها.
لقد كان الشيوخ الثلاثة (كشك، وسلامة، والمحلاوي) تمهيداً طبيعيّاً للشعراوي، ولم يكن حصارهم وإجهاض دعوتهم إفساحاً للإخوان ومن ورائهم السعوديَّة فحسب، وإنما كان محاولة لتقييد الحركية الدينية والثقافية المصريَّة، حتى تستطيع السعودية استغلال الفراغ. ورغم أن النفوذ الوهابي بدأ يتغوَّل منذ أواخر السبعينيات -مع عودة الإخوان إلى مصر برعاية الدولة- إلا أنه لم يُهيمن بقبضة السلطة إلا بعد وفاة الشيخين الشعراوي والغزالي منذ ربع قرن. لقد كان قدر الله المكتوب أن يعمل الشعراوي آمناً، وتُجهَض ثورة الشيوخ الثلاثة، ولله في خلقه شؤون نسأله أن يُعلمنا بعض حكمتها.
وإلى الملتقى في مقالنا التالي، عن "ثورتنا" التي قُتِلَت جنيناً.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry